قم بمشاركة المقال
بحلول نهاية العام 2022، بلغ إجمالي احتياطات الدول العربيّة من الذهب حدود ال1514 طنًا، فيما تتصدر المملكة العربية السعودية القائمة.
إذ من بين القيمة الإجمالية تركّز 1039.3 طن من الذهب، أي نحو 69% من إجمالي الاحتياطات العربيّة، بيد خمس دول عربيّة فقط، هي السعوديّة ولبنان والجزائر والعراق ومصر.
وعلى المستوى العالمي، حلّت كل من السعوديّة ولبنان في قائمة ال20 الدولة الأكثر امتلاكًا للذهب، حيث احتلّتا المرتبتين ال16 وال18 على التوالي بحسب تقرير لمؤسسة “فنك” الأوروبية.
وذكرت المؤسسة أن الأزمات الاقتصاديّة التي ضربت العالم خلال العام 2022 ساهمت في دفع الدول العربيّة الى مراكمة المزيد من احتياطات الذهب.
فخلال ذلك العام مثلًا، اشترت ثلاث دول عربيّة، هي مصر والعراق والإمارات العربيّة المتحدة، نحو 97 طنًا إضافيًا من الذهب، ما ساهم في رفع إجمالي احتياطات الذهب الموجودة لدى الدول العربيّة بشكل كبير.
أمّا قطر، فرفعت خلال العام 2022 حجم حيازتها الذهب إلى 91.7 طنَ، لتحقق أعلى مستوى تاريخي لها على هذا الصعيد.
وكذلك فعلت السعوديّة، التي اشترت بين نيسان/أبريل وتشرين الثاني/نوفمبر 2022 نحو 20 طنًا من الذهب، كجزء من استراتيجيّتها الجديدة القائمة على استثمار جزء أساسي من احتياطاتها الاستراتيجيّة في شراء الذهب.
الاتجاه نحو الاستحواذ على الذهب، يأتي اليوم كمحاولة من قبل العديد من الدول العربيّة لتنويع احتياطاتها الدوليّة، وتقليص حجم احتياطاتها المودعة في أسواق المال والمصارف الغربيّة.
فالضغوط التي تتعرّض لها مصارف الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة، ترفع من مخاطر الاستثمار في هذه المصارف عبر شراء الأسهم أو شهادات الإيداع، أو حتّى الاحتفاظ بودائع فيها.
وارتفاع الفوائد المستمر في أسواق المال، يضرب قيمة أي استثمار في أسواق السندات السياديّة، ما يبعد المصارف المركزيّة العربيّة اليوم عن شراء سندات الخزينة الأميركيّة مثلًا.
أمّا معدّلات التضخّم العالميّة المرتفعة التي شهدها العالم خلال العام 2022، والتي قاربت حدود ال8.8% بحسب صندوق النقد الدولي، فتؤدّي إلى تآكل القيمة الشرائيّة العملات الدوليّة الرئيسة، كالدولار الأميركي واليورو.
وهذا ما يدفع المصارف المركزيّة العربيّة الى الاحتفاظ باحتياطات الذهب، كملاذ آمن قادر على الاحتفاظ بقيمته على المدى البعيد.
لكل هذه الأسباب، لم تقتصر موجة شراء الذهب على الحكومات والمصارف المركزيّة العربية.
بل تشير أرقام مجلس الذهب العالمي إلى أنّ المصارف المركزيّة في جميع أنحاء العالم سجّلت خلال العام 2022 في حيازة الذهب أعلى مستوى، منذ العام 1974، أي منذ الأعوام التي تلت صدمة تخلّي الرئيس الأميركي رتشارد نيكسون عن ربط قيمة الدولار بالذهب عام 1971.
وبحسب أرقام المجلس، ارتفع إجمالي الطلب العالمي على الذهب بنسبة 18% خلال سنة 2022، فيما ارتفع صافي مشتريات المصارف المركزيّة في جميع أنحاء العالم من الذهب بنسبة 152%.
إنّ ارتفاع الطلب العالمي على الذهب، يفسّر ارتفاع المتوسّط السنوي لسعر أونصة الذهب من 1798.89 دولارًا أميركيًا خلال العام 2021، إلى 1801.87 دولارًا أميركيًا عام 2022.
مع الإشارة إلى أنّ أسعار الذهب استمرّت بالارتفاع عام 2023، مع استمرار الاضطرابات الاقتصاديّة العالميّة، إذ سجّل المتوسّط السنوي لسعر الأونصة في بداية أيّار/مايو 2023 نحو 1923.08 دولار أميركي.
وهكذا، يبدو مفهومًا اتجاه الدول العربيّة نحو زيادة حيازاتها من الذهب، كجزء من هذا المشهد الاقتصادي الدولي.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ معظم الخبراء الذين يؤيّدون الاحتفاظ بالذهب كاحتياطي استراتيجي على المدى الطويل، يحذّرون في الوقت نفسه من الانخراط في المضاربة على أسعاره على المدى القصير.
فالذهب، يمكن أن يحمي قيمة الاحتياطات من مفعول التضخّم بمرور الزمن، لكن الاحتفاظ به لفترات قصيرة قد يكبّد حامله خسائر نتيجة تقلّبات الأسعار الظرفيّة، وخصوصًا في فترات الاضطراب المالي.
وهذا تحديدًا ما يدفعنا اليوم إلى السؤال عن كيفيّة إدارة احتياطات الذهب الموجودة بحوزة الحكومات والمصارف المركزيّة العربيّة، والبحث عمّا إذا كان دور هذه الاحتياطات ادخار قيمتها للمستقبل البعيد، أو استعمالها كاستثمارات قصيرة الأجل.
كما يمكن السؤال هنا عن هدف الحكومات والمصارف المركزيّة من مراكمة هذه الاحتياطات، وكيفيّة اتخاذ القرارات المتصلة بها.
ومنذ العام 1973، التزمت السعوديّة باتفاقها مع الولايات المتحدة الأميركيّة، القاضي بتسعير النفط بالدولار، وهو ما عُرف منذ ذلك الوقت بالبترودولار.
وهذا الاتفاق، كان أحد العوامل التي حافظت على هيبة العملة الأميركيّة، على مرّ العقود الماضية.
ومنذ العام 1986، حافظت السعوديّة على ربط الريال السعودي بالدولار الأميركي، عند سعر صرف ثابت، ما زاد من ترابط السياسات النقديّة السعوديّة بالسياسات النقديّة الأميركية.
كما توسّعت السعوديّة بالاستثمار بسندات الخزانة الأميركيّة، إلى حد امتلاكها وحدها 45% من قيمة سندات الخزانة الأميركيّة المملوكة من دول عربيّة.
هذا المشهد، بدأ بالتغيّر اليوم. ففي كانون الثاني/يناير 2023، أعلن وزير الماليّة السعودي محمد الجدعان ولأوّل مرّة انفتاح بلاده على تسوية تجارتها الدوليّة، بما فيها التجارة النفطيّة، بعملات أخرى غير الدولار الأميركي.
وكان هذا الإعلان قد تلا نحو عامين من العلاقات الفاترة بين السعوديّة والولايات المتحدة، على خلفيّة تباينات في مصالح الدولتين السياسيّة والاقتصاديّة.
وظهرت هذه التباينات بشكل واضح خلال العام 2022، مع التناغم السعودي الروسي داخل مجموعة أوبيك+، ورفض السعوديّة المطالب الأميركيّة المتصلة بزيادة معدلات إنتاج النفط.
في الوقت عينه، بدأت السعوديّة بتعميق علاقاتها الاقتصاديّة مع الصين شرقًا، كما بدأت بوضع الخطط النقديّة لفك الارتباط ما بين الريال السعودي والدولار الأميركي.
وللمزيد من فك الارتباط بالولايات المتحدة، بدأت السعوديّة بخفض حيازتها من سندات الخزينة الأميركيّة خلال العام 2023، إلى أدنى مستوى لها منذ سبع سنوات.
في هذا السياق بالتحديد، يأتي توجّه السعوديّة لشراء الذهب ومراكمته كاحتياطي استراتيجي، لتحصين الريال السعودي بمعزل عن سياسة ربطه بالدولار الأميركي، ولتخفيض انكشاف السعوديّة على الاستثمارات والإيداعات في أسواق الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، يمهّد الاعتماد على الاحتياطات غير المدولرة لتنفيذ الطموحات التي تتشاركها السعوديّة مع دول مجموعة بريكس، والتي تستهدف إجراء التجارة الدوليّة بعملات أخرى غير الدولار، عبر استخدام الاحتياطات البديلة في التداولات التجاريّة.
باختصار، يتناسب التوجّه السعودي نحو شراء الذهب مع رؤية ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان، الطامحة إلى التعاون مع الصين وروسيا لإرساء نظام مالي عالمي جديد، يقلّص من هيمنة الولايات المتحدة الأميركيّة على الأسواق الدوليّة.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ السعوديّة تملك حاليًا نحو ستّة مناجم للذهب، وهذا ما يسمح لها بمراكمة المزيد من احتياطات الذهب بكلفة تقل عن سعر السوق العالميّة.
وفي الوقت الراهن، وفي ظل الفوائض الماليّة الضخمة التي تنعم بها السعوديّة بفعل أسعار النفط المرتفعة، لا يوجد ما يوحي بأنّ السعوديّة ستحتاج لاستخدام أو بيع أجزاء وازنة من احتياطات الذهب التي تملكها في القريب العاجل.
وهذا ما يشير إلى أن المملكة ستحتفظ بالذهب الموجود لديها كاحتياطي استراتيجي للمستقبل، من دون أن تتكبّد أي خسائر قد تنتج عن تذبذب أسعار الذهب على المدى القصير.
بخلاف السعوديّة، لم ينتج احتياطي الذهب الموجود لدى لبنان عمليّات شراء مستجدة.
بل وعلى العكس تمامًا، حصلت جميع عمليّات شراء الذهب التي قام بها لبنان بين عامي 1948 و1971، ثم توقّفت عمليّات الشراء منذ ذلك الوقت.
وكان الهدف من تلك الخطوة في ذلك الوقت، هو الاستفادة من فوائض ميزان المدفوعات اللبناني، لمراكمة احتياطات كفيلة بدعم سعر صرف العملة المحليّة على المدى البعيد.
وخلال حقبة الحرب الأهليّة، أقرّ المجلس النيابي اللبناني عام 1986 قانونًا يمنع بيع احتياطات الذهب الموجودة أو التصرّف بها، إلا بموجب قانون صادر عن المجلس النيابي.
وهذا تحديدًا ما حافظ على هذه الاحتياطات حتّى اليوم، دون أن يزداد أو ينقص حجمها على مرّ العقود.
حاليًا، تشير أرقام المصرف المركزي إلى أن قيمة الذهب الموجود بحوزته تقارب حدود ال17.57 مليار دولار أميركي.
وكان المصرف المركزي اللبناني قد أودع نحو 40% من هذه الاحتياطات في الولايات المتحدة الأميركيّة، فيما يحتفظ بالقيمة المتبقية في خزائنه الخاصّة.
ورغم قسوة الأزمة الماليّة الراهنة، فإنّ الدولة اللبنانيّة لا تمتلك حتّى اللحظة أي رؤية لكيفيّة استخدام هذه الاحتياطات في المستقبل، بالنظر إلى عدم وجود خطّة ماليّة متكاملة لمعالجة الأزمة حاليًا.
عمليًا، لا يبدو لبنان معنيًا بتقلّبات أسعار الذهب العالميّة على المدى القصير، إذ تتعامل الدولة اللبنانيّة مع كميّات الذهب الموجودة بحوزتها كاحتياطي استراتيجي لا يمكن المساس به أو استخدامه بسهولة.
لكن الخطر الذي يحدق بهذا الاحتياطي، قد ينتج تحديدًا عن احتمال إساءة استعماله، في إطار التعامل مع الخسائر الناتجة عن الانهيار، وخصوصًا إذا تم تحميل هذا الاحتياطي بعض الخسائر التي كان من المفترض أن تتحمّلها النخبة الماليّة.